فايننشال تايمز: ماذا لو عاش بوتين وشي إلى الأبد؟

في مشهد غير متوقع على هامش العرض العسكري في بكين مطلع سبتمبر، لم يتحدث الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ولا نظيره الصيني شي جينبينغ عن الحرب في أوكرانيا، أو مستقبل غزة، أو حتى التحديات الاقتصادية التي تهز العالم. بل دار بينهما نقاش بدا أقرب إلى قصص الخيال العلمي: إمكانية الخلود، وزراعة الأعضاء، والتكنولوجيا الحيوية التي تعد بتمديد العمر البشري. للوهلة الأولى قد يبدو هذا الحديث طريفًا أو هامشيًا، لكنه في الحقيقة يكشف عن تحوّل جوهري في نظرة قادة كبار للعالم والزمن.
فالسياسة كما عرفناها تقوم على وعي الزعماء بفنائهم، وعلى سعيهم لترك إرث يخلد أسماءهم بعد رحيلهم. لكن ماذا يحدث إذا اعتقدوا أنهم سيظلون على قيد الحياة لعقود طويلة وربما بلا نهاية؟ هل تصبح السياسات أكثر بطئًا وصبرًا، أم أكثر جرأة وعدوانية؟ وكيف ستتأثر الشعوب إذا صار قادتها يعيشون بمنطق "الخلود" بينما تبقى الأمم نفسها مهددة بالاندثار؟ هذه الأسئلة تفتح الباب لنقاش يتجاوز أحداث اليوميات إلى إعادة صياغة مفهوم السياسة العالمية برمته.
الخلود كمعادلة جديدة للسلطة
السياسة الحديثة لطالما ارتبطت بوعي الزعماء بقصر أعمارهم، وهو ما يدفعهم إلى الإسراع بإنجاز المشاريع أو تأمين الخلافة. أما إذا ترسخت قناعة بإمكانية إطالة العمر، فإن منطق الزمن نفسه ينقلب. الحاكم الخالد لا يفكر في الانتخابات المقبلة أو في "من سيأتي بعده"، بل يخطط وفق أفق ممتد لعقود. هذا التحول يغيّر طبيعة السلطة، فيجعلها أقرب إلى مشروع مفتوح بلا نهاية زمنية واضحة.
بوتين: بين الحاضر والمستقبل البعيد
عند انتهاء ولايته الحالية سيكون بوتين قد تجاوز في مدة حكمه ستالين وبريجنيف، وهو أمر غير مسبوق في التاريخ الروسي الحديث. إذا آمن بوتين بأن حياته قد تمتد 20 أو 30 عامًا إضافيًا بفضل التكنولوجيا الطبية، فسيتعامل مع السلطة باعتبارها امتدادًا طبيعيًا له، لا مجرد مرحلة عابرة. عندها لن يكون سؤاله "من يخلفني؟" بل "كيف أواصل حكم روسيا لأجيال أخرى؟". هذا المنطق قد يدفعه إلى تبني سياسات أكثر صرامة تجاه الغرب وأكثر جرأة في إعادة بناء النفوذ الإمبراطوري.
شي جينبينغ: الخلود والنهضة الصينية
شي لا يرى نفسه مجرد رئيس، بل امتدادًا لتاريخ سلالي طويل. ربط مشروعه السياسي بفكرة "النهضة العظيمة للأمة الصينية"، التي يُفترض أن تتحقق بحلول منتصف القرن. لكن ماذا لو آمن بأنه سيظل حيًا ليشهد هذا الإنجاز بنفسه؟ في هذه الحالة، يصبح الخلود ليس فقط حلمًا فرديًا، بل جزءًا من شرعية الحزب الشيوعي نفسه، الذي يقدم زعيمه باعتباره "الحارس الأبدي" لمستقبل الصين. هذا يعطي الاستبداد أفقًا جديدًا يتجاوز الحدود الزمنية التي اعتدنا عليها.
ترامب: خلود بلا تاريخ
على النقيض، فإن دونالد ترامب لا يفكر في الخلود كاستمرارية وطنية، بل كلحظة شخصية ممتدة. لا يعنيه كيف سيذكره التاريخ، بل كيف يبقى في مركز الضوء – سواء في البيت الأبيض أو مارالاغو. ترامب لا يتحدث عن الأجيال القادمة أو مصير الأمة، بل عن بقائه الفردي. هذا يكشف عن اختلاف جوهري بينه وبين بوتين وشي: فبينما يربط الأولان الخلود بمصير الدولة، يراه ترامب في استمرار صورته الذاتية فقط.
شعوب فانية أمام قادة خالدين
المفارقة المقلقة أن الشعوب نفسها تبدو اليوم أكثر هشاشة من زعمائها. فمع انخفاض معدلات المواليد والهجرات الواسعة، تبدو أمم بأكملها مهددة بالانكماش أو الزوال الثقافي. تخيّل المفارقة: قادة أقوياء يظنون أنهم خالدون، في مقابل دول صغيرة تكافح من أجل البقاء. هذه الهوة قد تؤدي إلى خلل خطير في ميزان العلاقات الدولية، حيث تتضخم شخصيات الزعماء بينما تضعف كيانات الأمم.
الخلود كتجربة ثورية متجددة
البحث عن الشباب الأبدي ليس جديدًا؛ في بدايات القرن العشرين حاول المفكر الروسي ألكسندر بوغدانوف إطالة عمره عبر تجارب لنقل الدم، وانتهى الأمر بموته. لكن الفارق اليوم أن القادة يملكون ثروة طائلة وتكنولوجيا متقدمة تجعل هذه المحاولات أقل عبثية وأكثر واقعية. وهنا يصبح حلم الخلود ليس مجرد نزوة شخصية، بل مشروع سياسي محتمل.
إعادة تعريف السياسة عبر الزمن
السياسة لم تعد فقط صراعًا على الأرض أو الموارد، بل معركة حول من يسيطر على "الزمن". إذا اقتنع زعيم بأنه قادر على البقاء لعقود، فإن خياراته الاستراتيجية ستختلف جذريًا. الصبر في مواجهة العقوبات، التدرج في بناء التحالفات، أو حتى الاستعداد لحروب طويلة الأمد، كلها تصبح ممكنة عندما يُعتقد أن الزمن متاح بلا حدود.
نحو عالم يشبه الأساطير
في النهاية، يقودنا هذا المشهد إلى صورة أسطورية: عالم تُدار فيه السياسة كما لو كانت صراعًا بين "آلهة خالدين"، بينما تبقى الشعوب مجرد بشر عاديين يأملون أن يحظوا برضا هؤلاء. هذا التحول ليس مجرد فكرة فلسفية، بل احتمال سياسي قد يرسم شكل النظام الدولي في العقود المقبلة، إذا استمر هوس القادة الكبار بالخلود وتجاوز حدود الطب إلى أروقة الحكم.